المقالات

طباعة

ماذا حدث للفلاح المصرى ؟

Posted in المجتمع

e-green-land قليلا ما يفكر أحد فى الفلاح المصرى وماذا جرى له من تحولات بسبب الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية , ربما لأن من يكتبون أغلبهم يعيشون فى المدينة , وحتى لو كانت أصولهم قروية إلا أن علاقتهم بالقرية وبأهلها اقتصرت على زيارات عارضة أو موسمية لحضور فرح أو عزاء أو عيد , وسرعان ما يعودون إلى مدينتهم وهم يحمدون الله على النعمة التى هم فيها وينسون الموضوع برمته بقصد أو بغير قصد .

 

وحتى فى الأعمال الدرامية لا يظهر الفلاح الحقيقى غالبا وإنما يظهر فلاح تخيلى ذو صورة نمطية يعيش فى رأس المؤلف وتفصله مسافات شاسعة عن الفلاح الحقيقى . ويخطئ من يظن أنك لكى ترى الفلاح فلابد أن تذهب إلى القرية , فالقرية وإن كانت هى الموطن الأصلى للفلاح إلا أنها أصبحت بيئة طاردة له إلى المدينة فى داخل مصر وخارجها , فأصبح الفلاح يظهر فى كل مكان وبكثافة يحمل معه كل موروثه القروى بعدما أضيف إليه من تعديلات أوتشوهات , وهذه الصورة لا تغرى أحدا بتأمله وإنما يكتفى بتسخيره (أو استخدامه) لأداء بعض المهام المطلوبة لساكنى المدن . والفلاح المصرى ليست له إرادة سياسية تغرى أصحاب القرار بالإقتراب منه ودراسة أحواله ورصد تغيراته , وليس له ثقل اجتماعى يغرى الباحثين بالتعمق فى أحواله وتحليل جوانب حياته , ولهذا بقى هو وبقيت القرية المصرية منطقة غائمة فى الوعى العام .  وهناك مثل شعبى شديد القسوة يصور هذا الموقف بقوله : "الفلاح ريحته زفره" . وقديما كان الباشا التركى المتعالى والمتغطرس يصف المصرى عموما بأنه "فلاح خرسيس" , حتى ولو كان ذلك المصرى زعيما شعبيا بحجم أحمد عرابى . وليس فقط الباشا التركى هو الذى يستخدم لفظ الفلاح بهذا الشكل السلبى وإنما اعتاد المصريون أنفسهم أن يستخدموه كأداة سب وتحقير فى حوارهم اليومى . ولم يظهر الفلاح فى صورة إيجابية حقيقية إلا فترة قصيرة فى بدايات ثورة يوليو وهو يسلم على الزعيم عبدالناصر ويتسلم منه عقد ملكية الأرض الجديدة التى اقتطعتها الثورة ممن أسمتهم إقطاعيين فى ذلك الوقت .


 

العلاقة بالأرض :

كانت هناك أورجوزة فى التراث الشعبى وردت فى أوبريت غنائى إذاعى شهير هو "عواد باع أرضه" وكلمات الأورجوزة تقول :

عواد باع أرضه

يا ولاد

شوفوا طوله وعرضه

يا ولاد

يا ولاد غنوا له

يا ولاد

على عرضه وطوله

يا ولاد

كان الإرتباط بالأرض قيمة بل كان طين الأرض نفسه قيمة ورائحته قيمة , بحيث أن التفريط فى أى شئ من ذلك يساوى التفريط فى الشرف والكرامة , وكان الفلاح يأنف من بيع أرضه ويجده عيبا يستحق الخجل والتوارى من الناس كما يتضح فى الأورجوزة السابقة .

والآن لم تعد للأرض نفس القيمة والقدسية عند الفلاح المصرى فبيعها لم يعد عيبا كما كان , وتجريفها وتبويرها والبناء فوقها أصبح شيئا مستحبا بل مرغوبا بشدة لديه . وربما يرجع ذلك لأن الأرض لم تعد تستر الفلاح أو تسد احتياجاته , فقد تفتت الملكية الزراعية مع توارثها جيل بعد جيل , ولم تتوسع رقعتها لتواكب الزيادة السكانية , ومن المعروف أن العائد الزراعى أبطأ وأقل من العائد الصناعى أو التجارى , ولكى تتوازى هذه العوائد أو حتى تقترب من بعضها لا بد من وجود مساحة أرض زراعية واسعة , وهذا مالم يحدث لأسباب كثيرة بالشكل المناسب والمتناسب مع أعداد الفلاحين , لذلك ارتبطت مهنة الفلاحة بالشقاء والفقر والحاجة والوضع الإجتماعى الأدنى , ولهذا وجدنا الفلاح يكره أن يورث مهنته لأبنائه لذلك يسعى بكل يملك لتعليمهم حتى يلتحقوا بوظائف حكومية أو غير حكومية أو صنعة من الصنائع تبعدهم عن مهنة الفلاحة والزراعة  , وهو لا يرضى لأحد أبنائه بالبقاء معه فى الأرض إلا مضطرا , وكأن الفلاحة أصبحت مهنة اضطرارية يلجأ إليها من فشل فى التعليم وفشل فى التجارة وفشل فى أن يتعلم صنعة معينة , وهكذا يتم تجريف هذه المهنة العظيمة من النابغين والنابهين , وتكون النظرة إلى الفلاح نظرة دونية لا تشجع أحدا على أن يكون فلاحا , على الرغم من عظمة هذه المهنة وأهميتها . وعلى الرغم من قدم الزراعة والفلاحة فى مصر أكثر من أى بلد آخر إلا أن تطور هذه المهنة قد توقف فى مصر فما زالت هي هي نفس الأساليب المتبعة من أيام الفراعنة وما زالت هى هى نفس الوسائل البدائية وقطع الأرض الصغيرة التى لا تتجاوز عدة أفدنة بل قد تقاس بالقراريط فى كثير من الأحيان , وما زالت سلعة الفلاح تشترى بأسعار زهيدة . كل هذا يكمن وراء ضعف انتماء الفلاح المصرى لأرضه وضعف تمسكه بها , ورغبته فى هجرها .


وهذه العلاقة الفاترة أو السلبية بالأرض ربما تكمن وراء الرغبة المحمومة لدى كثير من الفلاحين لتبوير أرضهم وتحويلها إلى أرض بناء تدر عليهم ربحا سريعا , وربما تكمن أيضا وراء التراخى فى استصلاح الأراضى المتاحة فى الصحراء والصبر عليها حتى تصبح صالحة للزراعة .

 

تآكل الأسرة الممتدة :

كانت الأسرة الممتدة من خصائص المجتمع القروى , وهى الأسرة التى تضم ثلاث أجيال يعيشون فى بيت العائلة الكبير : الجد ( والجدة ) , الأبناء ( والبنات) , ثم الأحفاد . ومع التغيرات الإقتصادية والإجتماعية قل عدد الأسر الممتدة وتزايد عدد الأسر النووية الصغيرة (الأب والأم والأبناء) يعيشون فى شقة صغيرة أو بيت صغير . وقد تظل الأسرة الصغيرة على اتصال يومى بالأسرة الكبيرة ولكنه فى الغالب اتصال وظيفى وليس اتصالا عضويا . وقد أثر هذا على علاقة الأبناء والأحفاد بجيل الأجداد فلم تعد كلمة الكبير لها نفس المكانة كما كان فى الماضى حين كان الكبير يملك الأرض والبيت ومن فيهما , وأصبحت الروح الفردية أكثر شيوعا فكل إنسان يحاول أن يدير حياته كما يريد ويرى , والجيل القديم يقاوم هذه النزعة الفردية ويحاول قدر استطاعته الإبقاء على حالة الوصاية القديمة والتى كانت سائدة فى عهدهم , وقد أدى هذا إلى صراع بين الأجيال يبدو أكثر حدة فى هذه الأيام .

وفكرة غياب الكبير انتقلت إلى المستويات السلطوية والإجتماعية فلم يعد للعمدة أو شيخ الخفراء أو شيخ البلد نفس التقدير , بل كثيرا ما تتعرض هذه الرموز للسخرية والإستهزاء بشكل مباشر أو غير مباشر .

ولم تعد لدى الفلاح المصرى رغبة فى إنجاب عدد كثير من الأولاد , ولم تعد فكرة العزوة تراوده بنفس الدرجة التى كانت موجودة لدى الآباء والأجداد , فهو الآن يعلى من قيمة الثروة وقوة المال والنفوذ الوظيفى .

 

الهجرة إلى المدينة :

حين ضاقت الرقعة الزراعية وافتقرت أو أفقرت أصبح أحد أحلام الفلاح المصرى الهجرة إلى المدينة حيث أحلام الثروة والحياة المدنية الحديثة , وحين ذهب إلى المدينة نقل إليها خصائص الحياة الزراعية فبنى العشوائيات , وأضفى ذوقه الريفى على المساحة التى يشغلها  , ونقل أخلاقيات المجتمع الزراعى إلى المدينة كالبطء والتراخى والإحساس الممتد بالزمن , وعدم تقدير أهمية المواعيد , وعدم تحرى الدقة , وضعف الإهتمام ببروتوكولات العلاقات الإجتماعية. وقد أثر هذا تأثيرا سلبيا على مجتمع المدينة , ذلك المجتمع الذى يحتاج إلى خصائص نفسية واجتماعية تناسب سرعة الحياة ومتطلبات الدقة فيها , ومراعاة مستويات أعلى من الذوق العام فى الأماكن ذات الطابع السياحى أو الجمالى , وتقدير احتياجات المجتمع الصناعى من الدقة والسرعة واحترام الوقت .

 

السفر إلى الخارج :

كان معروفا عن الفلاح المصرى ارتباطه الشديد بأرضه وقر يته وعزوته وقد ظل على هذا الحال قرونا طويلة على الرغم مما كان يمر به من مشكلات فقر واحتياج , ولكن حدث فى النصف قرن الأخير تغير ملحوظ حيث بدا السفر إلى الخارج حلما يداعب خياله , ويسعى إليه بكل ما أوتى من قوة , وإذا نجح فى السفر فإنه يقضى سنوات طويلة هناك , ويأتى لزيارة أهله لمدة شهر أو شهرين كل عام أو عامين , وتصبح علاقته بزوجته وبأولاده علاقة موسمية مؤقتة وعلاقة تمويل أكثر منها علاقة أسرية متينة . ويفسر البعض إقبال الفلاح المصرى على السفر بهذا الشغف إلى ما تعرض له من إغراء استهلاكى عن طريق وسائل الإعلام حيث نقلت له أنماطا من الحياة الرغدة المرفهة فى مجتمعات أخرى لم يألفها من قبل , وفتحت شهيته للتطلع إلى مثل هذه الأنماط المعيشية ما دام ذلك ممكنا .


وفى بعض الإحصائيات تبين أن 20% من الأسر المصرية بلا أب نظرا لسفره بالخارج . ومن الناحية النفسية والإجتماعية فقد أثر ذلك الوضع كثيرا على بنية الأسرة , فالزوجة محرومة من حقوقها الزوجية الطبيعية , وهذا يجعلها فى حالة غير سوية فى الأغلب حتى وإن تظاهرت بالسواء , والزوج كذلك , والأولاد والبنات فقدوا صورة الأب , تلك الصورة الهامة تربويا ونفسيا لهم , وبهذا تغيرت التركيبة النفسية والقيمية لهذا الجيل فلم يعد منتميا للأب أو متأثرا به , فصورة الأب لديه باهتة أو منقوصة أو منعدمة . والأم تورطت فى دور مزدوج (أب وأم ) تحاول القيام به فيرهقها ويفقدها أنوثتها الطبيعية خاصة حين تحاول أن تستلهم الصفات الرجولية لكى تسيطر على أبنائها الذكور الذين دخلوا فى مراحل المراهقة أو الشباب , وهى تشعر بعدم الأمان وتشعر بالخوف من الفشل فى القيام بمهمتها فتبالغ فى حماية أبنائها أو السيطرة عليهم , فيواجهون هم ذلك بالعناد والتمرد .

والأب يشعر بالذنب والتقصير تجاه زوجته وأبنائه فيحاول تعويضهم ماديا بإغداق الإنفاق وكثرة الهدايا (قدر استطاعته) وتلبية طلباتهم بشكل فورى وهو لا يعلم أن ذلك فى النهاية يفسدهم لأنه يفتح شهيتهم الإستهلاكية الإعتمادية , ويعودهم على الأخذ الدائم , ويعطل لديهم قيم العمل والإجتهاد والعطاء والسعى وراء الإحتياجات .

وعلى الجانب الإجتماعى نرى الفلاح المسافر يعلو ببنائه على جاره المقيم ويتباهى بما حققه من ثروة ( أو تتباهى أسرته) ويثير روح المنافسة أو الحقد لدى من لم يسافر , ونتيجة هذا حالة من عدم التوازن الإجتماعى ربما تصل إلى نوع من الطبقية تدفع المقيم إلى السفر أو إلى تحقيق الثروة بأية طريقة لكى يلحق بمستوى من سافروا .

وعلى الجانب الثقافى والدينى فإن من سافروا قد عادوا بقيم البلاد التى سافروا إليها وثقافتها وحاولوا نقلها إلى مجتمعهم الريفى فحدث تغير نوعى فى التركيبة الدينية والثقافية فى الريف المصرى .

 

النمط المعمارى:

اختفى النمط المعمارى المميز للقرية (البيوت المبنية من الطين ذات الطابق الواحد أو الطابقين على الأكثر والتى تحوى غرفا صغيرة وحظيرة للحيوانات ثم حظيرة للطيور ) , وحل محلها مبان بالطوب الأحمر ذات طوابق متعددة وليس لها أى نمط مميز بل هى تبنى كيفما اتفق , ولذلك أصبح شكل القرية عشوائيا يحوى بعض البيوت القديمة الطينية مع الكثير من الكتل الأسمنتية والطوب الأحمر الذى يخلو من البساطة والجمال , وبجانب هذا بعض البيوت الفارهة على نمط المدينة , وكل هذا يشكل مسخا لا ينتمى إلى القرية أو إلى المدينة , وربما هذا المسخ المعمارى يقابله مسخا ثقافيا وأخلاقيا فى نفوس الناس فلاهم ينتمون إلى قيم القرية ولا هم استوعبوا قيم المدينة .

 

الإنتاج الغذائى :

كان الفلاح المصرى فيما مضى ينتج غذاءه من أرضه ومن حظيرة مواشيه وكانت زوجته تقوم على تربية الدواجن التى تغطى احتياجات البيت من اللحوم . ففى البيت القمح والأرز واللبن والبطاطس والكوسة والبامية والملوخية , وكلها أشياء منتجة محليا , أما الآن فهو يشترى الخبز من الفرن أو من محلات البقالة , وقد عزفت زوجته عن "الخبيز" وعزفت عن تربية الدواجن , وعزف هو عن تربية المواشى (ربما لغلاء تكلفة هذه التربية على المستوى الفردى) , وأصبح الفلاح مطالب بشراء الكثير مما يأكله .


وبما أن دخل الزراعة ضعيف مقارنة بدخل الصناعة أو التجارة لذلك وجد الفلاح نفسه متأزما أمام احتياجات غذائية لا يملك القدرة عليها , خاصة مع تقلص الرقعة الزراعية بشكل مستمر بسبب البناء عليها أو تبويرها أو تجزئتها بالميراث .

ولم يعد فى كثير من البيوت فرنا تقليديا كما كان واستبدل ذلك بفرن البوتاجاز , وكان هذا وراء الإستغناء عن قش الأرز كوقود تقليدى , واستتبع هذا حرقه فى الحقول مع ما تخلف عنه من خلق سحابة سوداء ودرجة عالية من التلوث فى القرية والمدن المجاورة لها .

 

أخلاقيات القرية :

تغيرت كثيرا أخلاقيات القرية فتقلصت روح العائلة الواحدة واتسعت مساحة الفردية , وانسحبت الكثير من قيم المروءة والشهامة والنجدة وحلت محلها قيم أنانية ونفعية , ولم تعد الغيرة على العرض والشرف بنفس الدرجة فأصبح الفلاح يتقبل أشياء وسلوكيات من أبنائه وبناته لم يكن يتقبلها من قبل , وأصبحنا نرى ونسمع عن العلاقات العاطفية المتعددة والمفتوحة فى المجتمع القروى , وعن حالات حمل غير شرعى بنسب ليست قليلة , وانتشر تعاطى المخدرات بأنواعها , وكثر عدد المقاهى , ومحلات الإنترنت , واختفت الأزياء الريفية وظهر خليط من الأزياء المدنية المختلطة ببعض اللمسات الريفية . ولم يعد احترام الكبير قائما , واهتزت صورة الزوج فلم يعد يحظى بنفس التقدير العالى كما كان وأصبحت المرأة قادرة على أن تعنفه وتلومه وأحيانا تضربه , ولم يعد المراهقون والشباب يطيعون أوامر الآباء والأمهات بل أصبحوا مصرين على خياراتهم ورؤاهم الشخصية بشكل أكثر وضوحا وجرأة .

حالة التدين :

كان يغلب على أهل القرى نوع من التدين البسيط حيث كان المسجد يتوسط القرية ويشكل مركزا جغرافيا وروحيا لأهلها , والناس يبدأون يومهم بصلاة الفجر وينهونه بصلاة العشاء , وتسرى فى حياتهم روح دينية مبسطة وبسيطة , وأحيانا يغلب عليها الطابع الصوفى المشبع بالرضا والتسليم والمتمثل فى انتشار الموالد والأضرحة والتبرك بالأولياء . ولم يخلو التدين القروى من بعض المعتقدات الأسطورية والمبالغة فى تأثير الجن والسحر والحسد فى حياتهم .

وفى النصف قرن الأخير بدأ التدين يأخذ منحى آخر حيث نشطت الجمعيات والجماعات الدينية فى مجتمع القرية فتغيرت مفاهيم وطقوس دينية كثيرة طبقا لتفسير الجمعية أو الجماعة للدين , ونشأت خلافات عميقة وحالات استقطاب بين أنصار الجمعيات والجماعات الدينية المختلفة , وتوارت الطقوس والمظاهر الصوفية . ومن أشهر الجمعيات والجماعات المؤثرة على الجانب الدينى فى القرية نجد الجمعية الشرعية والإخوان المسلمين وجماعة أنصار السنة ثم التبليغ والدعوة . وفى الوقت الحالى تحتل جماعة أنصار السنة بمنهجها السلفى مساحة واسعة فى التأثير , وهو ما نلحظه من انتشار اللحى الطويلة والثياب القصيرة للرجال والنقاب للنساء , والإهتمام بالعودة إلى نمط حياة السلف بكل تفاصيله . وقد تقبل مجتمع القرية هذه المفاهيم نظرا لقرب عهده النسبى بها ونظرا لجذوره المحافظة التى يحاول العودة إليها لحمايته من غزو القيم الحياتية الجديدة الواردة إليه عبر الفضائيات والإنترنت وعبر أبنائه العائدين من الخارج . يضاف إلى ذلك كثرة عدد الريفيين الذين سافروا إلى الخليج حيث يسود هناك المذهب السلفى , وقد تأثروا به وتوحدوا معه , وربما ربطوا بينه وبين الثروة والرفاهية والحياة الرغدة , أو نظروا إليه من موقعهم الأدنى فتوحدوا معه على أنه الأقوى والأفضل .


مجتمع القرية والشاشة :

لقد أحدثت الشاشة بكل تنويعاتها ( التليفزيون والكومبيوتر والموبايل ) تغيرات نوعية فى المجتمع الريفى , فالفلاح يجلس أمام التليفزيون لوقت متأخر فلا يتمكن من الإستيقاظ مبكرا كما كان , وقد انفتح عقله على عوالم جديدة يراها أمام عينه فترفع من مستوى طموحه وربما مستوى شراهته الإستهلاكية , وقد أدى هذا إلى تقلص حالة الرضا التى كان يتسم بها الفلاح والتى كانت سمة مميزة له فلم يعد الآن راضيا أو قانعا . وغيرت شاشة التليفزيون وشاشة الكومبيوتر والإنترنت من قيم الفلاح حيث انفتحت عينه على الكثير من المحظورات والمحرمات , واتسعت مساحة رؤيته فى المناطق الإيجابية والسلبية على السواء , ولكن هذا أحدث شرخا هائلا بداخله , حيث يرى هذا العالم الواسع الذى يعد بالثروة والمتعة وفى ذات الوقت حين يغلق الشاشة يصحو على واقعه الفقير المؤلم .

وهذه الشاشات قد أثرت على القدرة الإنتاجية للفلاح المصرى تأثيرا سلبيا حيث استنزفت جزءا كبيرا من قوته وطاقته (بالسهر أمام التليفزيون والإنترنت) وماله (من خلال الإنفاق المتزايد على التليفون المحمول) .

وحين تزور قرية مصرية تفاجأ باختفاء مخازن الغلال التى كانت تعلو السطوح بشكلها المميز , وقد حل محلها أعداد هائلة من أطباق الفضائيات , وهذا يعنى الإنتقال من الإنتاج والتخزين إلى السهر والرفاهية .

وثمة صورة كاريكاتورية تراها الآن كثيرا فى القرية فى شكل فلاح يمتطى حماره ويتحدث فى تليفونه المحمول إلى زوجته الجالسة أمام التليفزيون أو إلى ابنه الجالس فى مقهى الإنترنت حيث يقضى معظم وقته .

الطقوس الإجتماعية :

مر زمن طويل على القرية المصرية اتسمت فيه بالبساطة فى طقوس الأفراح والمآتم , أما فى السنوات الأخيرة فثمة سباق محموم فى التظاهر والتفاخر فى مثل هذه المناسبات , حيث المبالغة فى تجهيز أساس العروسين بما يتجاوز بكثير قدرة ألأسرتين , والمبالغة المستفزة أحيانا فى طقوس الأفراح بإقامتها فى قاعات النوادى وبتكلفة هائلة نسبيا (بدلا من إقامتها قبل ذلك فى البيت أو فى الشارع بتكلفة بسيطة) . وفى بعض القرى تقام وليمة ضخمة لأهل العريس فى الأيام التالية للخطبة تتكلف مئات وأحيانا آلاف الجنيهات , وقد تستبدل هذه الوليمة بسيارة تحمل مؤنا غذائية وهدايا من أسرة العروس إلى أسرة العريس تمشى فى موكب يشق شوارع القرية فيستفز الآخرين ويدفعهم إلى التسابق للمزيد . ونفس الشئ يحدث فى "الصباحية" حيث تتكون من عدد من السيارات تحمل موادا غذائية ولحوما ودواجن وأحيانا بقرة أو جملا تزف إلى بيت العروسين فى اليوم التالى للزفاف . وفى بعض القرى ظهر تقليد أن تذهب العروس فى فترة خطبتها إلى بيت العريس من وقت لآخر لتقضى يوما بأكمله عندهم , وقد حدث من هذا التقليد مشاكل كثيرة بعضها يمس الشرف وأخلاقيات القرية التى كانت سائدة مما استفز خطباء المساجد وراحوا يدعون إلى مقاومة هذه العادة المستحدثة .


وأصبحت المآتم فرصة للتباهى وإظهار القدرة المادية والمكانة الإجتماعية , حيث تقام السرادقات الضخمة وتذبح العجول أو الأبقار أو الجمال وتقدم المشروبات , ويأتى الناس من كل حدب وصوب لإظهار المكانة الإجتماعية للمتوفى وأسرته .

وانتشرت فى القرية عادة التصييف وهى عادة جديدة عليها لم يعرفها الآباء والأجداد من قبل ربما بسبب جو القرية المعتدل وطبيعتها الجميلة , وقد أصبح القرويون يصيفون كل عام , ويضعون ميزانية خاصة لهذا الأمر ربما لا يتحملونها .

وقد يقول قائل بأن هذه التغييرات هى من صميم التطور والتغيير فى الحياة فليس معقولا أن تسير الحياة فى المجتمع القروى أو المدنى على وتيرة واحدة دون تغيير , وهذا صحيح فالحياة بطبيعتها متغيرة , ولكننا دائما ننظر إلى التغيير : هل هو فى الإتجاه الإيجابى البنّاء ؟ هل هو فى اتجاه تأكيد الخصوصية وتقوية الإنتماء ؟ هل هو فى اتجاه النمو الإفتصادى والإجتماعى والثقافى ؟ .. أم أن التغييير ضد كل هذا ؟

يبدو أن التغيير فى حياة الفلاح المصرى قد حدث فى ظروف سياسية غير مواتية  جعلت هذا التغيير يأخذ شكلا استهلاكيا ترفيا مغتربا فرديا أنانيا , وهذا ما يدعو للقلق ويحفز للمراجعة والتصحيح والإصلاح .

 

المصدر : www.elazayem.com

FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed