طباعة هذه الصفحة
الجمعة, 01 شباط/فبراير 2013 21:07

في التأديب بالعقاب الإيجابيّ

كتبه  د.مصطفى ابوسعد
قييم هذا الموضوع
(1 تصويت)

سوف نناقش المبررات التي يستند إليها الآباء والمربّون وفنّدنا بعض ما يبدو للكثيرين سائغاً منها، ونبّهنا إلى كثيرٍ من المخاطر التي يغفلون عنها.
ثمّ حاولنا دفع المربّين إلى استكشاف المحرّكات الحقيقية التي تدفعهم إلى ضرب أبنائهم. من خلال قوائم من أسئلة محدّدة بدأنا معاً استكشاف ماذا يجري أثناء اللجوء إلى الضرب من عمليات داخلية لدى المربّين وكذلك لدى الأبناء. وفي هذه المقالة نتابع ذلك الاستكشاف.


صراع أم هروب، عنف أم انسحاب؟!

نقطة الانفجار في حياة كل إنسان يُرافقها إفراط في إفرازات الأدرينالين. والأب هو إنسان معرض لمسؤوليات صعبة في الكثير من الأحيان يزيد من صعوبتها استشعاره بواجباته العقدية التي تؤكد خطورة المسؤولية وما يترتب عليها من نتائج. ولذلك يتصرف الأب المسلم في بعض المواقف بطرق غير متوقعة وخارجة عن مألوفه وعاداته السلوكية.

من قوانين الحياة وقوانين التفاعل الإنساني..

انسحب، أو حارب وإلا فأنت معرض للشلل..
حين يلجأ الأب للضرب وممارسة العنف مع ابنه فإنه قد مارس قانون الحرب والصراع.. وكلنا يعرف أن الحروب والصراعات لا ينتصر فيها أحد والخسائر دائماً متوقعة من الطرفين. أما إذا اختار الأب في بعض الحالات الحرجة أمام سلوكيات مرفوضة لدى ابنه موقف الانسحاب؛ فإنه في الواقع تصرف بطريقة بنّاءة وأكثر تأثيراً في عملية تعديل السلوك وإصلاحه. لكن المهم أن لا يتوقف المربي حائراً مشلولاً أمام هذه المواقف الحرجة.

لو قارنّا الحالة الجسدية للأب والإحساسات الخارجية في كلتا الحالتين (الصراع والانسحاب) فإنها متشابهة تماماً. لكن الاختلاف يتم – وهذا المهم – في ردة الفعل لدى الأب. هل يضبط نفسه ويتحكم فيها؟ أم يصبح أسيراً لتغيرات نفسية داخلية ويتصرف بدون وعي؟!
ولذلك تستحضر دوماً قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصُّرعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

برمج مواقفك وكن مستعداً للمفاجآت:

إن إفراز الأدرينالين يعد مؤشراً غير طبيعي وعلامة إنذار للتدخل السريع وبشكل إيجابي لأخذ مساحة مباعدة بينك وبين الابن كنقطة تفكير لاتخاذ القرار السليم البناء في التعامل الأفضل مع الحالة. ولذلك يستحسن دوماً أن يكون الإنسان محدداً لمواقفه تحديداً مسبقاً في إطار برمجة ذاتية لردود أفعاله وسلوكه.

- أربع خطوات للبرمجة الإيجابية:

وتتم البرمجة الإيجابية باتباع الخطوات التالية:
1- الاعتقاد: تأكد أن اختيارك لموقف الصراع لا يفيد.
-الضرب يعطي نتائج مؤقتة وعلى المدى البعيد يترك آثاراً سلبية سواء على العلاقة المتبادلة بين الأب وابنه أو على معالم شخصية الابن.
- الانسحاب المؤقت أفضل وسيلة لتعديل سلوك ابني.
- الشديد من يملك نفسه عند الغضب.

2- التأكيدات والإيحاء: أكد هذه الاعتقادات من خلال اختيار أحسنها أو أكثرها تأثيراً عليك. وكررها أكثر من مرة.

3- التفكير: باعد المسافة بينك وبين الطفل، واختر كلمات إيجابية ترسلها للابن في هذه الحالة مثل: أنت الطفل الذكي كيف تتصرف بهذا الشكل؟

4- السلوك: تذكر بعض إيجابيات الطفل وسلوكياته الحسنة في هذه اللحظة واستعملها في سلوكك وردود أفعالك.

في غياب برمجة إيجابية للسلوك والمواقف في حياة الآباء والأمهات إزاء السلوكيات المزعجة أو المرفوضة، تتضاعف احتمالات الانتقال إلى الأفعال وردود الأفعال المصاحبة للغضب والتوتر -والتي كثيراً ما تكون سلبية وغير بناءة- ورسولنا صلى الله عليه وسلم يحذرنا من هذه المواقف والقرارات التي يصدرها الإنسان حالة الهيجان والغضب. بل من رحمة الإسلام وعدالته أنه يلغي الكثير منها إذا صدرت في مثل هذه الحالات.

احتفظ بطاقتك للبناء لا للهدم:

إذا لم يملك الإنسان نفسه في الحالات الحرجة واستسلم للردود السلبية فإنه يجد نفسه قد استهلك طاقة هائلة من قوته الداخلية التي من المفترض الحفاظ عليها لاستغلالها في عملية البناء والتربية والتعليم والتشجيع والحوار والمتابعة، وللحياة اليومية الهادئة المليئة بعبادة الله وقراءة القرآن وحسن المعاشرة داخل الأسرة والعمل الخيري ومساعدة الناس وإماطة الأذى عن الطريق..

ولذلك فإن المفتاح الذي نحتاجه للحفاظ على الطاقة وضبط النفس هو (البرمجة) التي تعني الاستعداد العلمي الهادف للمفاجآت. وإن كنا قد بيّنا خطوات مختصرة للبرمجة الأولية فإننا سنفصلها لاحقاً إن شاء الله لتكون لنا عوناً على تحقيق التربية الإيجابية في بيوتنا السعيدة التي يتخرج منا من يباهي بهم رسولنا ? الأمم. وتُحدِثُ في حياة الأمم التكافؤ الكيفي مقابل الغثائية.

بابا! حبيبي... أعد إليَّ يدي!

تذكّر دوماً قصة الأب الذي لم يكن يعرف معنى الاستعداد للمفاجآت. ولم يبرمج نفسه لحسن التعامل. والذي تسبب في قطع اليد اليمنى لابنه الصغير. ذلك الطفل البريء الذي لم يقم بغير ما تقتضيه مرحلة نموه من حركة ومحاولة اكتشاف محيطه..

كان الطفل كثير الحركة، مشاغباً. أبواه يحبانه بدرجة لا توصف، وكذا الجيران وكل من في الحارة. الكل يتهافت على حمله ومداعبته والجميع مأسورون بمحبته.

ذات يومٍ أكثرَ من تلك "الشقاوات" المعهودة ممن هم في مثل سنه. فغضبت والدته وأقسمت أن تشكوه إلى والده حين عودته من عمله، لكن الطفلَ استقبل كلمات والدته باستخفاف ولم يعرف ما ينتظره.

والده في مكتبه، منهمك في عمله، محاصر بين أكداس الأوراق، ملاحقٌ بنداآت الهاتف وإلحاحات الاجتماعات والمقابلات والمفاوضات...

وعندما فُتح باب الكراج، و أحست الأم بعودة زوجها اتجهت إليه تستقبله وتلقي على وجهه نشرة الأخبار الحافلة...

دارت في رأس الأب المشحون كل المؤثرات السلبية فنادى على ابنه والشرر يتطاير من عينيه. أمسكه من كتفه وهز بدنه هزة عنيفة، والتفت جانباً فرأى عصاً خشبية مسندةً على حائط الكراج فأخذها وبدأ يضربه على يده المشاغبة ضرباً مبرحاً..
الطفل يتلوّى ويضرب برجله في الأرض.. والأب يكبله بيدٍ ويتابع ضربه بالأخرى...
لم تتحمل الأم وحاولت منع زوجها بعدما رأت ما رأت..
الابن يتأوه و يتلوّى والأب يمعن في ضربه ولم يستجب لاستغاثة الابن ولا لصراخه إلا عندما رأى الدم ينزف من اليد الصغيرة المذنبة... تأمّل في العصا وإذا فيها مسامير!
أسرع بالطفل إلى الإسعاف... وفي المشفى وقعت عليه الصاعقة!
أخبره الطبيب أنه لا بد من بتر يد الطفل فوراً حفاظاً على حياته لأن المسامير كانت مسمومة!
و بعد العملية دخل الأب على ابنه منكّس الرأس... نظر إليه طفله الصغير نظرة تحمل الكثير من التساؤلات و قال له ضارعاً:
بابا حبيبي! أقسم أنها آخر مرة أفعل فيها شيئاً يغضبك. لن أعيدها مرة أخرى، فمتى ستعيد إليَّ يدي؟...

ماذا يستشعر الطفل المعرض للقسوة والعنف؟

تحدثنا من قبل عن الحالة الذهنية والنفسية للأب أثناء ممارسة العنف والعقاب مع أبنائه. وتكتمل الصورة بالاطلاع على ذات الحالتين لدى الطفل، لاسيّما وأنه هو من يخضع للفعل وردة الفعل. وهو الشخصية المستهدفة والهشة.

لنسلّط الضوء الآن على مشاعر وأحاسيس الطفل المستقبل لفعل الكبير وعنفه. تذكّر آخر مرة ساندت فيها عقاب أبٍ لابنه وأنت تعتقد حينئذٍ أنك تساند الحق والمنطق، بينما هناك من يعتبره المعتدي. وكنتما أنت وذلك الأب تحاولان التخلص من الموقف ومن المشاعر التي أنشأها تعنيف طفل.

قرّر الآن، أي مصطلحات كانت تنطبق عليكما يومئذ:

- تشاؤم - ألم -انتقام - حزن - رفض - حيرة - غضب - متهم - شعور بأنّ المربّي أسيء فهمه - حقد ومعاداة - انهيار - إضعاف - انفعال وسخط

هل سألت نفسك يومها وأنت هادئ بعيداً عن كل انفعال: هل يمكن لطفل أن يتصرف بشكل مختلف في الموقف نفسه؟

إن الطفل لا يمكنه أن يتحكّم بانفعالاته وسلوكه ورغباته بمستوى مشابه للكبار. ولكن تذكّر وأنت في حال غضبك وما استشعرته من أحاسيس ومشاعر وأفكار أنّه لو كان الطفل يستشعر مثلها ماذا ستكون النتيجة لدى شخص هش، ولدى طينة مرهفة في مرحلة التشكيل؟!

ماذا يستشعر ابنك بعد عقابه بالضرب ؟

حين يعاقب الطفل تنتابه مشاعر الخوف من الأب ويقتنع اقتناعاً كبيراً أنك لا تحبه بل تكرهه. ويشعر بالفزع وانعدام الأمن والطمأنينة لأن الإنسان المفترض أن يحميه ويحقق له الطمأنينة فقد صوابه وضبطه لنفسه. ويستشعر أنه تم التخلي عنه وأنه سجّل في لائحة الأشقياء، ولا يعرف كيف يمكنه العودة لقائمة الطيّبين من الأبناء!

إنّه في هذه اللحظات لا يمكنه أن يستوعب أي توجيه أو يفهم أية رسالة أو يفكر برزانة وتعقل بسبب إفراز غير طبيعي لمادة الأدرينالين.

و هذه المشاعر قد تنقلب فيما بعد إلى سلوكيات أخرى منها التبول غير الإرادي والمخاوف المرضية أو الانطواء على الذات والخجل المرضي.

تذكروا أيها المربّون:

راجع ما عرضناه سابقاً من خصائص شخصية الأب أثناء العقاب وضعها أمام ما يستشعره الابن الخاضع للعنف وما يترتب على هذا من معالم شخصية ضعيفة بعيدة عن الشجاعة والقوة التي يطمح لها كل مسلم من النسل والتكاثر الكيفي لا الكمي والقوة مقابل الغثائية.

خذ دقائق من وقتك واسترخ بمكان هادئ وتخيل حالك أثناء الغضب ومشاعر ابنك (الضعيف المسكين) وبعدها اتخذ قرارك بالبحث عن بديل أكثر نجاعة في تنشئة ابنك على مكارم الأخلاق والجرأة والشجاعة والإقدام ليكون في زمرة (المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف). وقرر أن تغير من أسلوبك هذا.

ليس مطلوباً أن لا تغضب من سلوك غير مقبول لديك لكن المطلوب أن تحسن التصرف وتبني بدل أن تهدم عند الغضب. قرّر إذن أن تغير أسلوبك وتأكد أنك ستستطيع بإذن الله.


المصدر : www.saaid.net

إقرأ 10021 مرات

البنود ذات الصلة (بواسطة علامة)