الإثنين, 19 آذار/مارس 2012 18:50

هذه الثقافة السائدة

كتبه  إبراهيم الحيدري
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)
knowledgeثمة حقيقة سوسيولوجية هي ان إشكالية المثقف لا تنفصل عن إشكالية الثقافة السائدة، التي بدورها لا تنفصل عن إشكالية المجتمع وأزمته وتأزمه، فهناك علاقة عضوية وجدلية تربط بين المثقف والثقافة وبينهما وبين المجتمع.
فإذا كان الأفراد في تجمعهم وتعاونهم وتنافسهم وتفاعلهم يكونون المجتمع، فان طرائق تفكيرهم وعملهم وشعورهم وسلوكهم تكون ما نسميه الثقافة، التي هي في الوقت ذاته،
الوجه الآخر للمجتمع. أما المثقف، فهو كل من ساهم ويساهم في إنتاج المعرفة الثقافية، من أدب وشعر ورواية وفن وفلسفة وعلوم إنسانية وطبيعية وغيرها، باعتباره عضواً في مجتمع ويكتسب معرفته وثقافته وسلوكه منه.

وإذا كان المثقف عضواً في المجتمع، فليس من الضروري أن يمثل طبقة معينة، فالمثقفون عموماً ينتمون الى فئات وشرائح وطبقات اجتماعية مختلفة، ولكن ما يجمعهم هو كونهم «منتجي ثقافة» وتتحدد وظيفتهم بالدور الريادي الذي يقومون به في الدفاع عن حرية الفكر وازدهاره ومساهمتهم الفاعلة في عملية توعية وتنوير الأفراد وإخصاب معارفهم وتوسيعها مثلما يتحدد دورهم في نوع الثقافة التي ينتجونها ويطورونها وينقلونها إلى الآخرين، وكذلك الكلمة التي يبدعونها والمسحة الجمالية التي يضيفونها إلى عملهم الثقافي التي تضفي عليه «هالته» وأصالته وفرادته.
و ما يميز المثقف عن غيره أنه منتج معرفة نظرية، بمعنى أنه يقوم بجهد فكري وليس عضلياً، وهذا يؤدي بنا إلى تعريف نوعي للمثقف وكذلك لوظيفته ودوره، الذي يمكن إيجازه بقدرته على امتصاص الهم الفكري والثقافي والمجتمعي المشترك وعكسه في عمله الثقافي والمشاركة في رفع المعاناة والعجز والبؤس والقدر الأعمى الذي يطاول الإنسان ويثقل كاهله من طريق رفع وعي المجتمع بذاته والتعبير عن هوية «النحن» وليس «الأنا» والتعريف بها ونقدها وإبرازها إلى الوجود للمساهمة في تطور أساليب التفكير والعمل والشعور وترويض السلوك الاجتماعي والثقافي غير السوي ورفعه إلى ما هو أرقى وأجمل.

إن وظيفة المثقف ودوره في المجتمع لا يمكن أن تكون فاعلة إلا باستخدام المنهج النقدي العقلاني الذي يقف ضد الامتثال والوصاية والتبعية والتوجيه والتهميش. وبمعنى آخر استخدام منهج نقدي يربط الفكر بالممارسة العملية ربطاً جدلياً، داخلياً وليس سطحياً، وهي مهمة المثقف النوعي وليس المهمش، مثلما هي مهمة المثقف التنويري المتحرر من أوهام الوصاية، الذي يستطيع اكتشاف ذاته قبل اكتشاف ذوات الآخرين.

نحن اذاً في حاجة الى مثقف فاعل، مبدع ومبتكر وليس مقلداً محاكياً، بل مثقف يسعى الى معرفة الحقيقة من دون أن يدعي امتلاكها، لا كالقائد السياسي، فهذا ليس دوره وانما يتحدد دوره، بمقدار مشاركته في عملية التواصل والتفاعل والحوار والتثاقف والتثقيف وتغيير المنظومة الذهنية والقيمية التقليدية القديمة التي تقف عائقاً أمام التطور والتقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي وتساعد على تغيير منظومة القيم الأبوية التي تساعد على تنصيب قادة في المجتمع وجعلهم اصناماً يجبرون الناس على عبادتهم.

إن هذه الحال ليست وليدة الحاضر الراهن بتناقضاته وصراعاته المجتمعية والسياسية، ولا بسبب أنظمة الحكم الاستبدادية فحسب، وإنما هي وليدة أعراض لتراكم واقع موضوعي يمتد عمقاً في التاريخ تكون من التخلف والجهل والظلم والقهر والاستلاب. وهي جاءت إثر قطيعات حضارية متتالية قطعته عن جذوره التي تمتد عمقاً في التاريخ وجعلته مجتمعات ممزقة ومنشقة على نفسها، وفيها من الصراع الاثني والديني والقبلي والطائفي اكثر من المجتمعات الأخرى. وهو ما يؤكد بأن بنيته الذهنية ونمطه الثقافي هما انعكاس للواقع المجتمعي الذي يرفض كل تغيير في الفكر واللغة والعمل والسلوك ولا يرضى إلا بما هو موروث وتابع وثابت، لأنه استمرار للثقافة الماضوية التقليدية والشفاهية غير التدوينية والنزعة الأبوية - البطريركية المهيمنة على نمط التفكير والعمل والسلوك، بقيمها وأعرافها وعصبياتها وتناشزاتها الاجتماعية، والتي تفرض سلطتها وايديولوجيتها وكذلك معاييرها وذوقها الجمالي الخاص بها.


إن الوضع المأسوي الذي تمر به المجتمعات العربية اليوم والمحنة التي تسم الثقافة العربية والمثقف العربي، إنما يعكسان العجز والنكوص والإحباط وما يمكن تسميته «الردة الحضارية» التي توشك ان تعيد المجتمع الى ما قبل عصر النهضة العربية. فمن المثير للحزن والأسى والإحباط أن تجد بعض المثقفين العرب يندفع للتهليل مع من ينفي المحرقة النازية لليهود أو يصرخ دفاعاً عن طاغية تفنن في إبادة شعبه وهدم بنيته التحتية ومزق نسيجه الاجتماعي والثقافي والأخلاقي. فهل يمكن لمثقف متنور أن ينكر الجرائم الإنسانية والمقابر الجماعية؟

والحال، أن ما يعترض المثقف اليوم هو أولاً غياب الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وثانياً استبداد النظم الشمولية التي وقفت حاجزاً أمام تطور دولة القانون والمجتمع المدني، وثالثاً النزعة الأبوية البطريركية المهيمنة على المجتمع والثقافة وما ينتج عنها من ثقافة تغالبية قمعية، وأخيراً اللغة، فعلى رغم غناها وجمالها بقيت لغة شعر وخطابة وبلاغة، إضافة الى هاجس خوف مركب يستولي على المثقف من الذات ومن الآخر، وحتى من الحرية نفسها، كل ذلك، صنع عملية تغبية وغسل دماغ تعيق التحرر. وليس أمام المثقف من خيارات، سوى أن يكون تابعاً، أو أن يهرب الى الرموز والإشارات والتأويلات لإيصال صوته واسماع صرخته التي بالكاد يرجع صداها إلى من أغلق آذانه بالشمع الأحمر.

في مثل هذا المناخ الثقافي المحمل بالتقليد والاستبداد والتسطح تختفي التلقائية وروح النقد والتغيير والإبداع والتسامي وتحل محلها روح التقليد والمحاكات والتزلف والخضوع، ويتحول النشاط الثقافي الى مؤسسة ثقافية لخدمة السلطة، وأهدافها القريبة والبعيدة من طريق تنميط الثقافة وتشكيلها وفق مقاييسها وايديولوجيتها، ولتقود في الاخير الى نفي المثقف وإلغاء دوره التنويري الطليعي وتحويله إلى مجرد واجهة سياسية. هكذا يتحول الى أداة من أدوات السلطة، ان لم يتحول في بعض الأحيان، إلى سلطة موازية لسلطة الدولة وأيديولوجيتها ويفقد بذلك وظيفته التنويرية وكذلك رسالته النقدية. وبذلك يصبح المثقف مهمشاً وملحقاً تابعاً لجهاز الدولة ويعمل بعكس ما يراد منه أو ينبغي أن يكون أو يريد وعيه النقدي المطلوب، ليصبح مثقفاً «تقنياً وأدواتياً» بحسب تعبير الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني تيودور أدورنو



المصدر:من صحيفة الحياة

www.alhayat.com/culture/02-2007/Item-20070219-db14ed78-c0a8-10ed-00ed-d9deb4b03dd1/story.
إقرأ 9051 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 25 أيلول/سبتمبر 2012 08:32
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed